أصبحت الكنائس في بريطانيا عبارة عن عقارات خالية دون مستأجر أو حتى زائر. وكانت الكنائس في العهود السابقة في بريطانيا تلعب دورا رئيسيا في حياة البشر، لذا فقد كثر عددها وكبرت مساحاتها واتخذت لنفسها مواقع استراتيجية. والآن مع انحسار هذا الدور بدرجة كبيرة أصبحت كثير من شركات العقارات والإنشاءات البريطانية تضع عينها على هذه المباني القديمة الجميلة المتينة، والتي عادة ما تحتل مواقع استراتيجية داخل المدن. وبالفعل فقد تمكن كثيرٌ من هذه الشركات من اقناع السلطات الهندسية المحلية في الأحياء والدوائر الجغرافية بتحويل بعض هذه الكنائس الى دور سينما أو مسارح أو مكتبات عامة أو مراكز رياضية وترفيهية أو استوديوهات موسيقية أو قاعات للرقص، بل ومطاعم وحانات. وفي أحيان أخرى طُرحت الكنائس الصغيرة الحجم للبيع في مزادات عامة واشتراها أفرادٌ عاديون حوّلوها الى مساكن لهم.

وقبل أن يستغرب القارئ العربي فعلينا النظر الى الاحصاءات التالية: منذ عام 1969 انخفض عدد الأعضاء المسجلين في كنيسة أنجلترا من 2.6 مليون شخص الى 1.3 مليون حاليا. كما أن 1660 كنيسة أغلقت أبوابها رسميا بعد أن انقطع عنها آخر زائر لفترة سنوات طويلة.

وحسب القانون البريطاني فإن الكنيسة تُوضع تحت سيطرة «مجلس أمناء الكنائس» ليقرر بشأنها. ففي القرى الصغيرة في الريف البريطاني تظل كثيرٌ من هذه الكنائس في أيدي المجلس دون الاستفادة منها حتى يتداعى المبنى وينهار. وفي بعض الأحيان تظل الكنيسة مغلقة لكنها تبقى كرمز يتطلع اليه سكان القرية. أما في المدن، خاصة الكبيرة منها، فالوضع مختلف، إذ أصبحت قيمة العقارات مرتفعة للغاية بينما لا تستطيع الحكومة أو عمدة المدينة الحصول على أراض جديدة لانشاء المراكز ودور الترفيه والثقافة العامة، لذا فقد اتجهت أنظارهم نحو تلك المباني الجميلة الواسعة التي أصبحت دون عمل.

وعلى سبيل المثال فقد حوّلت مدينة «مانشستر» في شمال أنجلترا (التي اشتهرت تاريخيا بأنها قلب الصناعة البريطانية) إحدى كنائسها الشهيرة الى ناد شبابي للتسلق مستفيدة من جدرانها المرتفعة والمبنية من حجارة جبلية مما جعلها مناسبة للتسلق. وفي مدينة «كينت» الجنوبية حيث تكثر الثروة عن شمال انجلترا، تحولت كنيسة رئيسية بُنيت منذ القرن الثامن عشر الى مطعم فاخر تلتحق به حانة كبيرة تتبع لشركة «ويزرسبونز» المتخصصة في هذا المجال. وفي الحالتين قرر المالكان الجديدان الابقاء على شكل الكنيسة المعماري كما هو، بما في ذلك النوافذ الزجاجية الضخمة ذات الزخارف الكنسية الشهيرة بألوانها الزاهية. أما في لندن، ومثلها مثل بقية المدن الكبيرة في بريطانيا، فقد تحول عددٌ كبير من الكنائس الى أشياء مختلفة. لكن الأكثر إثارة هي كنيسة كبيرة في حي «وستمنستر» حيث يُوجد البرلمان ومقر الحكومة ويعتبر من أقدم أحياء لندن التاريخية. فقد طلب المالك الجديد للكنيسة من السلطات المحلية تصريحاً بتحويلها الى مركز للتجميل يشتمل على حمام بخار وحانة. وهو يتوقع أن تقبل السلطات طلبه. ومن جهتها فإن كنيسة انجلترا، التي تشرف على جميع الكنائس في بريطانيا، لا تعترض على هذا التغيير رغم أنه يحز في نفسها، لكنها تفضل هذه التغييرات على أن يتم هدم الكنائس العاطلة، وهو ما يفرضه القانون على أي مبنى يبقى غير مستخدم لفترة من الزمن. ومن مفارقات القدر أن التجمعات السكانية الكبيرة للمهاجرين (وهي الأسرع نموا في بريطانيا من حيث العدد) أصبحت تبحث لنفسها عن دور للعبادة حسب نوع الجالية وعقيدتها. وبدلا من أن تشتري هذه الجاليات الكنائس البريطانية القديمة وتحوّلها الى دور لعبادتها فقد راحت تشتري دور السينما وتحولها الى معابد. والسر في ذلك أن مواقع الكنائس القديمة عادة ما تكون في الأحياء التي يقطنها البريطانيون وليس المهاجرون الذين يلجأون الى الأحياء الفقيرة حيث تلعب دور السينما وسيلة الترفيه الأساسية. وتاريخيا (بين عامي 1900 و1940) بنت بريطانيا كثيرا من دور السينما في الأحياء الفقيرة حيث كان الاقبال عليها أكثر من الأحياء الراقية التي كان سكانها يستمتعون بوسائل متنوعة من الترفيه، كالمسارح والمطاعم والنوادي الاجتماعية ودور السينما أيضا. 

وعندما دخل التلفزيون حياة الناس استغنت الطبقات الغنية عن السينما وفضلت شراء جهاز التلفاز في بيوتهم، بينما لم يستطع الفقراء فعل ذلك. كما أن هناك عاملا آخر ساعد في تحول الكنائس الى دور للسينما وتحول دور السينما الى كنائس، وهو أن الاثنين يشبهان بعضهما البعض من حيث التصميم. فالاثنان يتطلبان قاعة واسعة مليئة بالمقاعد التي تتجه كلها صوب منصة مرتفعة كالمسرح حيث تتركز الأنظار. وكان هذا العامل سببا أساسيا في اختيار الجاليات المهاجرة الفقيرة لشراء دور السينما (وليس مثلا دور الترفيه أو الرياضة) لتحويلها الى معابد. فتكلفة أعمال التحويل ستكون منخفضة لأن المطلوب تعديله محدود. ويعتقد البعض، مثل باستر بول من مجلس كنائس «فنسبري بارك»، أن اشكال دور السينما الحديثة ـ عندما تتحول الى معابد ـ قد تجذب الشباب من الأجيال الجديدة، بينما التصاميم القديمة للكنائس العتيقة قد تشعرهم بأن الدين ينتمي الى القرون الوسطى وأنهم ينتمون الى عصر يختلف عن تلك العصور. ويضيف بول بأن بعض الكنائس ودور العبادة الحديثة تسعى الى ادخال تصاميم جديدة تشبه دور الترفيه والمباني الحديثة الجذابة، في محاولة منها بأن تجعل الشباب يشعرون بالانتماء الى المبنى ويشعرون بالارتياح النفسي فيه قبل أن يبدأوا في الاستماع الى الوّعاظ الدينيين أو حتى الحضور اليه. وكان استطلاع أجرته إحدى المؤسسات الدينية البريطانية قد أوضح أن هناك تناقصا كبيرا في عدد البريطانيين الذين يزورون الكنيسة بشكل منتظم، أي مرة واحدة كل شهر على الأقل. كما أن هناك تناقصا مماثلا في أعداد الذين لا زالوا يؤمنون بالديانة المسيحية أو بأي ديانة سماوية، وأن 46 % من الشباب البالغة أعمارهم بين 18 و24 سنة لا يؤمنون أصلا بوجود المسيح عليه السلام، وذلك مقارنة بنسبة 20% فقط بين المسنين الذين تفوق أعمارهم 65 عاما.

وفي أحد أسئلة الاستطلاع حول ما اذا كان المسيح إبن الله (سبحانه وتعالى) أجاب 38% فقط بنعم، بينما كانت النسبة 71% في عام 1957. وأوضح الاستطلاع أيضا أن 43% من البريطانيين لا تعرف الى ماذا يرمز عيد القيامة رغم أنهم يحتفلون به بسعادة كبيرة للغاية كل عام.

يذكر أن 44 % من الشعب الإنجليزي يعتنق المذهب البروتستانتي، لكن نسبة البروتستانتيين الذين يزورون الكنائس بانتظام لا تتعدى 24 % من إجمالي المتعبدين، أي أقل من نسبة المتعبدين الكاثوليك (البالغة 26 %) رغم أن عدد هؤلاء يبلغ 11 % فقط من تعداد سكان المجتمع ككل. كما يتبع كنيسة اسكتلندا نحو 5% من سكان بريطانيا، بينما تبلغ نسبة المتعبدين بينهم 6% من إجمالي المتعبدين البريطانيين.

غير أن بعض المتفائلين رأى في هذه الاحصاءات صورة ليست بالقتامة التي كانوا يظنونها، ومن بين هؤلاء رئيس مجلة «ذي تابلت» التي أجرت الاستطلاع والذي علق عليه بقوله إن الاستطلاع يوضح أن بريطانيا ليست مجتمعا علمانيا بحتا كما تصوره بعض وسائل الإعلام. فمن الواضح أن هناك كثيرين لا زالوا يتمسكون بعقيدتهم ويحرصون على زيارة دور العبادة بانتظام، رغم أن عدد هؤلاء قد تناقص بدرجة كبيرة. ومن جانبها فإن كنيسة إنجلترا تشعر منذ عقد الستينات (الذي شهد بداية التحرر الاجتماعي في بريطانيا) بتنامي التيار العلماني وابتعاد الناس عن الدين، لكن الإحصاءات التي نشرتها مجلة «ذي تابلت» الكاثوليكية أزعجتها رغم علمهم المسبق بالوضع العام.