صناعة الحرير في لبنان

 انتاج الحرير عملية قديمة في لبنان يُرجعها البعض الى 115 سنة قبل الميلاد والبعض الآخر الى العهد الروماني – البيزنطي حين يقال إن الأمبراطور أرسل كاهنين الى بلاد الفرس بمهمات تبشيرية وعادا ببذور دودة القز معهما، ورواية ثالثة تقول بذهاب راهب نسطوري من العراق للتبشير في الصين حيث عاد ومعه بذور دودة القز في عصاه القصبية. قد تكون كل هذه الروايات صحيحة أو البعض منها. والله اعلم. لكن التأثير الحاسم للحرير في اقتصاد لبنان ومجتمعه كان خصوصاً في القرن التاسع عشر وبشكل أخص في نصفه الثاني.

الحرير كعنصر تغيير لوجه لبنان الاقتصادي
لماذا لعب الحرير هذا الدور المهم؟ يعود ذلك الى الثورة الصناعية في أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، التي أفرزت فئات أخذت في الاتساع من الطبقات الوسطى والطبقات الثرية المستهلكة للحرير الذي كان سابقاً حكراً على الطبقات الغنية والنبلاء والاكليروس.
نتيجة لهذا الطلب المتزايد في أوروبا والولايات المتحدة، ارتفع إنتاج الحرير في العالم من 9546 طناً كمتوسط سنوي بين 1871 و1875 الى 27230 طناً سنوياً في العام 1913. أي أن هذا الانتاج تضاعف ثلاث مرات خلال أربعين عاماً.
لم تكن أوروبا قادرة على تلبية هذه الزيادة السريعة في الطلب، فاتجهت أعين أصحاب مصانع نسيج الحرير ومغازله وتجار الحرير، الى الدول القريبة التي يتلاءم مناخها مع مستلزمات إنتاج الحرير حيث تكلفة الانتاج أدنى من الدول الأوروبية المستهلكة وخصوصاً فرنسا وانكلترا.
بدأ رجال الاعمال في قطاع الحرير الفرنسي والانكليزي النظر الى بلدان البحر المتوسط كإسبانيا وإيطاليا والسلطنة العثمانية لتحفيز إنتاج الحرير وتصديره الى أوروبا.
نتيجة لذلك وبسبب الروابط الاقتصادية والسياسية الوثيقة بين فرنسا والسلطنة العثمانية التي نشأت بعد توقيع فرنسيس الأول ملك فرنسا مع السلطان سليمان القانوني اتفاق الامتيازات (Capitulations) في العام 1535، سيطرت فرنسا بشكل واسع على تجارة مدن الشرق وخصوصاً تجارة مدن الساحل الشرقي للمتوسط، وفي مقدمها المدن اللبنانية. في هذا السياق سعى التجار والصناعيون في قطاع الحرير الفرنسي وخصوصاً رجال الأعمال في هذا القطاع في مدينتي ليون ومرسيليا الى إنشاء مصانع غزل الحرير في بلادنا منذ مطلع القرن التاسع عشر حيث أقام رجل الأعمال الفرنسي كوفا فيغون أول كرخانة لحلّ الشرانق في بلدة القرية (قضاء بعبدا) في العام 1810، ثم اشترى كرخانة للغزل في غزير في العام 1847، وكرّت السبحة منذ ثلاثينات القرن التاسع عشر في بيروت وبتاتر مع يورتاليس العام 1838 والانكليزي سكوت في شملان العام 1841. وكذلك مع الانكليزيين "كورتو، تايلور وكورتو" في بيروت العام 1846. وغيرهم كثر لا مجال لذكرهم في هذه العجالة. تبعهم اللبنانيون بسرعة وخصوصاً بعد 1860 التي شهدت تدمير قطاع الحرير في أكثرية مناطق جبل لبنان وإعادة إعماره. وقد ساعد نظام المتصرفية اللبنانية على انشاء مغازلهم الخاصة ومنافسة المغازل الفرنسية.
هكذا ارتفع إنتاج خيط الحرير في "بر الشام" (لبنان وسوريا وفلسطين والأردن حالياً) من 150.000 كيلوغرام في مطلع سبعينات القرن التاسع عشر الى 350.000 كيلوغرام في العام 1913 أي بزيادة 350 في المئة، أي أكثر من متوسط الزيادة العالمية! وكان 80 في المئة من إنتاج "بر الشام" هو فعلياً من إنتاج أراضي متصرفية لبنان1.

من النتائج الاقتصادية لهذا النمو السريع، التخصص في الإنتاج الاحادي للحرير
تطلب التوسع السريع من إنتاج الحرير الذي تمركز خصوصاً في متصرفية لبنان بسبب الامتيازات الضريبية للمتصرفية (لا وجود لضريبة العشر ورسوم أخرى على الإنتاج)، وكفاءة اليد العاملة والتقاليد السابقة في انتاج الحرير، توسعاً في المساحات المزروعة بالتوت التي تشكل أوراقه المادة الاولية لإطعام دودة القز. في العام 1914 بلغت المساحات المزروعة 40 في المئة من المساحات الزراعية في المتصرفية2. كما كانت تؤمن مداخيل لـ50 في المئة من سكان المتصرفية، أكان في زراعة التوت أم في تربية دودة القز، أم الخنق والحل والنسيج والتمويل. فهذا التخصص الاحادي في انتاج الحرير حرم المتصرفية من تنويع الانتاج وزاد من تبعيتها الغذائية. إذ كان مجمل القمح واللحوم وغيرها من المواد الغذائية الأساسية تأتي من البقاع وحوران. فسهّل ذلك لنشوء المجاعة أثناء الحرب العالمية الأولى مع الحصار العثماني البري وحصار الحلفاء البحري وكان له مفعول فتاك على سكان المتصرفية وغيرهم.

التبعية الغذائية
برزت التبعية الغذائية من كون 50 في المئة من مستوردات المتصرفية، وهي منطقة ريفية، كانت تتكون من مواد غذائية قبيل الحرب العالمية الأولى: فكان القمح والشعير والحبوب الأخرى والحيوانات للذبح والسكر والزبدة والقهوة وغيرها من المواد تشكل أكثر من نصف مستوردات المتصرفية3.

من التغيرات الأقتصادية الأخرى
دخول الاقتصاد النقدي الى كل قرى المتصرفية وبلداتها مع رديفه من مجال نمو التجارة والتسليف، فكان المزارع قد استبدل قسماً كبيراً من إنتاجه الغذائي بإنتاج ورق التوت ووجّه القسم الأكبر من عمل أسرته على مختلف مراحل إنتاج الحرير. لذلك كان يستدين "على الموسم" لقضاء حاجاته الغذائية وغيرها، ويسدد الديون حين يأتي "موسم القزّ ممزق الكمبيالات". وازدهر التداول النقدي وتراجعت المقايضة وازدهر عمل الكونتوارات والمرابين والمصارف. فالمال لتمويل موسم الحرير كان يأتي من مشتري الحرير في مدينة ليون عبر المصارف الفرنسية في بيروت الى كبار تجار الحرير في بيروت ومنهم الوسطاء والسماسرة في الريف ومنهم الى المزارعين منتجي الشرانق أو المغازل المنتجة لخيط الحرير.
نتيجة هذا الارتفاع في كمية إنتاج الحرير وتصديره حصل ارتفاع في الدخل الفردي والدخل العام، وخصوصاً لدى كبار الملاّكين وأصحاب المنازل والتجار والوسطاء والسماسرة وحتى صغار منتجي الشرانق. وسمح هذا الارتفاع بزيادة إنفاق السكان على استهلاكهم وبناء البيوت واستيراد السلع من أوروبا فازداد استعمال السلع المستوردة من المصانع الأوروبية التي شكل استيرادها 42 في المئة من مستوردات المتصرفية4.

الحرير كعنصر تغيير في المجتمع
حصل في القرن التاسع عشر وخصوصاً في ثلثيه الأخيرين، تغيير تدريجي للمجتمع من مجتمع يسوده المقاطعجية من مشايخ وأمراء ومقدمين الى مجتمع تسوده فئات اجتماعية جديدة "بورجوازية" من التجار والصيارفة وأصحاب مصانع الغزل وغيرهم من النخب الحديثة العهد.
أصحاب مصانع الغزل (الكرخانات): إن أصحابها اللبنانيين كانوا يملكون 196 مصنعاً في العام 1913: 91 في المئة منهم في المتصرفية. وكانت تتوزع هذه المغازل بين مختلف أقضية المتصرفية كما يأتي: 59 في المئة في المتنين و25 في المئة في الشوفين، و8.34 في المئة في كسروان (وجبيل) و3.3 في المئة في البترون (البترون والزاوية وبشري والهرمل). أصحاب هذه المصانع شكلوا فئة اجتماعية صاعدة أشهرهم من الذين يملكون أكثر من مئتي خلقين: فرعون وشيحا (في وادي النصارى وعكار) وأبناء شديد عقل (في المتن) ويوسف فرنسيس طعمه في المتن أيضاً1.
العاملات والعمال في مصانع الغزل: هم نواة العمالة الصناعية في لبنان. بلغ عددهم 14.000 شخص في العام 1911، وتراوح بين 10.000 و20.000 شخص في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى.
شكلت النساء النسبة الكبرى من هذه القوى العاملة وقد بلغ عددهن 12.000 امرأة في العام 1911 أي 86 في المئة من المجموع وتتراوح أعمارهن بين 8 و18 سنة. أما باقي العمال فمن الرجال وتتراوح أعمارهم بين 10 و30 سنة وتبلغ رواتبهم ثلاثة أضعاف رواتب النساء وهم يقومون بالأعمال الشاقة جسدياً وكذلك بوظيفة وكلاء على العاملات2.
تجار الحرير (الشرانق والخيط): كان عدد اللبنانيين من بينهم في بيروت (مركز تصدير الحرير) 67 تاجراً وكان هناك 6 تجار كبار من الأجانب، فرنسيون غالباً. من أهم مصدّري الحرير اللبنانيين: أبناء سليم بسول، فرعون، و ج. طبيب وأبناؤه وطرزي وأبناؤه، وح. صباغ وأبناؤه و ن. خياط وأبناؤه، والياس لحود وأبناؤه3. وكان تجار الحرير من كبار أغنياء البلاد كما تدل أسماؤهم وتعبّر عن ذلك بعض فقرات الأغنية الشهيرة: "وإن كان بدك تعشق تاجر بالحرير، فالعشق دخلك يا ماما بدو مال كتير".
يمكن أن نضيف الى كبار المصدّرين المذكورين أعلاه مئات الوسطاء والسماسرة بين كبار التجار والمزارعين.
كما يضاف اليهم وكلاء وأصحاب المصارف وكونتوارات التسليف: فموسم الحرير كان يحتاج الى كميات مهمة من الأموال. كانت مصارف ليون وتجار الحرير وصناعيوه فيها يموّلون هذا الموسم عبر بعض المصارف في بيروت وبعض كبار التجار وأصحاب المغازل كما كان هناك عشرات الكونتوارات لتسليف المزارعين وصغار التجار وأصحاب المغازل على الموسم ومئات "المدينجية" الذين كانوا يسلّفون المزارعين وصغار التجار وصغار أصحاب المغازل.
فنشاط إنتاج الحرير وتصنيعه وتسويقه يحتاج الى رساميل مهمة مما حدا ببعض المصدرين أن يكونوا مصرفيين أو وكلاء مصارف فرنسية كأبناء سليم بسول وفرعون و ج. صباغ و ج. طراد4.

صغار الملاكين الزراعيين:
برزت هذه الفئة من خلال تملك الشركاء الزراعيين للأرض بواسطة عقود المرابعة أو "بشراكة الشلش". وقد سمحت هذه العقود للعديد من الشركاء لدى الأديرة وكبار الملاّكين بأن يصبحوا من صغار الملاّكين الأحرار.
هذا التحول الفريد من نوعه في المشرق العثماني ثم العربي، كان من الأسس المهمة للديموقراطية التمثيلية الآخذة في البروز مع أنظمة القائمقاميتين (1840-1860) والمتصرفية (1861-1918)، إذ أنتج هذا التطور فئة من الفلاحين الملاّكين الأحرار من قيود النظام الإقطاعي الذي ألغي قانونياً في العام 1861. وترجم هذا التطور مع صعود أصحاب الرساميل السياسي: أصحاب المغازل (آل عقل في المتن) والتجار (آل لحود – عمشيت في كسروان وجبيل) وغيرهم. ساهم في هذا التغيير السياسي ارتفاع الدخل الذي سهّل التعليم في المدارس الناشئة بكثرة في القرن التاسع عشر في ارتفاع المستوى العلمي للسكان ونمو الديموقراطية التمثيلية التي تميز بها لبنان عن محيطه حتى الآن رغم كل شيء في شرقنا العربي.


خلاصة
شكل النمو السريع لإنتاج الحرير وتصنيعه وتسويقه عنصراً فاعلاً في التغيير الاقتصادي والأجتماعي في لبنان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وساهم في ولادة مجتمع يتسم ببعض سمات المجتمع الرأسمالي الغربي. لكن حلقة التصنيع لم تكتمل بالنسيج وإنتاج الألبسة وغيره. فكان الحرير يصل بشكل خام الى ليون بأكثريته مما جعله عرضة للأخطار مع التقلبات السياسية والاقتصادية: فالحرب العالمية الأولى التي قطعت العلاقات مع فرنسا ضربت هذا القطاع ضربة قوية جداً1، كذلك الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 1929 مما ساهم في إغراق اللبنانيين في المجاعة بين 1915 و1918 وفي الكساد والبطالة في ثلاثينات القرن العشرين2.
الهوامش
Boutros Labaki : "Introduction à l'histoire économique du Liban » - Publication de l'Université Libanaise – Beyrouth – 1984 – p30.
Boutros Labaki - ibid - p 152
Boutros Labaki - ibid - p 155
جلال بك: "الأحوال الزراعية والتجارية والصناعية والأقتصادية في جبل لبنان: - في اسماعيل حقي بك: "لبنان مباحث علمية وأجتماعية" – دار لحد خاطر – بيروت – الطبعة الثالثة ص 98.
جلال بك – مصدر سابق – ص 98.
Gaston Ducousso: "L'industrie de la soie en Syrie et au Liban Beyrouth" – Imprimerie Catholique – Librairie Maritime et Colombe – Augustin Chanel Editeur – 1913 – p.132 et 216 à 232.
Boutros Labaki: "A l'ombre du murier: les femmes dans la filature de soie libanaise à la fin de la période ottomane" dans "L'Orient des femmes" – Acte Sud Editeur – 2011 – Paris – p. 59-60.
G. Ducousso – op. cit. – p. 233 à 235.
Boutros Labaki:"Introduction ..."-op. cit.-p 50.
بطرس لبكي: "تأثير الحرب العالمية الأولى على قطاع الحرير في لبنان"- في "لبنان في الحرب العالمية الأولى" - منشورات الجامعة اللبنانية- قسم الدراسات التاريخية - بيروت- 2011.
11) Boutros Labaki: "L'industrie libanaise de la soie au début du Mandat Français, 1920-193" - in "Chronos" - Revue d'histoire de l'Université de Balamand - N° 15 - 2007 - p. 153-179.