Image may contain: 2 people, people sitting, people eating, glasses, table, indoor and food
الوطن الأسطورة
١٠٤ـ سمّيت هذه الحقبة بحرب السنتين، وفي أثنائها هاجم الفلسطينيون عدّة بلدات وقرى مسيحية نائية في عكار وشكّا والدامور والعيشية وارتكبوا فيها أبشع المجازر بحق أهاليها العزّل جلّهم من الأطفال والنساء والشيوخ أين منها مجازر التتر والمغول مجسّدةً قمّة الحقد الفلسطيني تجاه شعبٍ ذنبه الوحيد انه استضافهم على أرضه عشرات السنين.
١٠٥ـ الملفت للنظر ان الإعلام الدولي، تمشياً مع المخطط المذكور، مارس سياسة التعتيم على تلك المجازر، ولم يسلط الضوء إلّا على الخسائر التي لحقت بالفلسطينيين، وأبرزها مجزرة صبرا وشاتيلا عام ١٩٨٢ التي نستنكرها جميعاً، فساد الإعتقاد لدى الرأي العام العالمي ان صبرا وشاتيلا كانت المجزرة الوحيدة التي حصلت خلال هذه الحرب، وما زال هذا الإعتقاد سائداً حتى اليوم.
١٠٦ـ على إثر وقوع مجزرة شكّا، وحّدت قوّات الشمال في إهدن وبشرّي صفوفها وشنّت هجوماً كاسحاً على منطقة الكورة التي كانت معقلاً حصيناً للمنظمات الفلسطينية واليسارية، ولاقتها من الساحل قوّات من أحزاب الجبهة اللبنانية، فسقطت الكورة خلال ساعات معدودة، ووصلت قوّات المقاومة اللبنانية إلى مدخل طرابلس في البحصاص، وتوقفت هناك محجمةً عن دخول المدينة خوفاً من أن تأخذ الحرب طابعاً طائفياً.
١٠٧ـ بعد تحرير المناطق الشرقية من كفرشيما إلى الأرز، عقد عدد من ضبّاط الجيش، أو من تبقى منهم، إجتماعاً في ثكنة الفياضية في آب ١٩٧٦، بحثوا فيه خطة عسكرية لإسقاط المنطقة الغربية من بيروت، تتألف من ثلاث مراحل: الأولى، تقضي بالوصول إلى عاليه صعوداً من الكحّالة، الثانية، متابعة السير نحو سوق الغرب، والثالثة، النزول إلى خلدة وتطويق المنطقة الغربية من الخلف.
١٠٨ـ طلب هؤلاء الضبّاط الإجتماع بنا، بشير الجميّل وداني شمعون وممثل عن التنظيم وأنا، ولما عرضوا علينا هذه الخطّة وافق الجميع عليها، بينما أنا تحفظت على المرحلة الأولى منها، ورفضت الإشتراك بها لأنها قد تشعل حرباً بيننا وبين الطائفة الدرزية، واقترحت أن نذهب مباشرة إلى سوق الغرب عن طريق القماطيّة، وعندما أصرّوا على رأيهم، وضعت مقاتلي حرَّاس الأرز في حالة تأهّب في مكان قريب من الكحّالة استعداداً للإنطلاق إلى سوق الغرب وخلدة في حال نجاحهم في الوصول إلى عاليه.
١٠٩ـ فشلت المهمّة بعد وقتٍ قليل على انطلاقها إذ سقط عدد كبير من عناصر الفرقة المهاجمة عند اجتياز منطقة ضهر الوحش.
قصدنا تدوين هذه الواقعة لسببين، الأول، للدلالة على المعنويات العالية التي كانت تتمتع بها المقاومة اللبنانية بُعَيدَ تحرير المناطق الشرقية صيف العام ١٩٧٦؛ والثاني لدحض مزاعم السوريين وأعوانهم القائلة بأن الجيش السوري جاء إلى لبنان لإنقاذ "المسيحيين" من الهلاك، عِلماً ان هذه الإشاعة انطلقت قُبيل دخول السوريين إلى المناطق الشرقية، وسرَت بين الناس، وما زالت سارية إلى اليوم.
إذا الحقيقة الساطعة هي ان جيش الإحتلال السوري دخل لبنان يوم كان "المسيحيون" في عز قوتهم وذروة انتصاراتهم.
١١٠ـ اما لماذا وافق زعماء الجبهة اللبنانية على دخول جيش الإحتلال السوري إلى المناطق الشرقية المحرّرة للتو من الإحتلال الفلسطيني، فنضع علامات استفهام كبرى أمام هذا السؤال ونتركه للتاريخ، رغم أننا نملك بعض المعلومات عن هذا الموضوع ونتحفظ عن ذكرها.
١١١ـ لم تدم فرحة المقاومة اللبنانية بانتصاراتها طويلاً إذ قرّرت الإدارة الأميركية بالإتفاق مع حافظ الأسد إرسال الجيش السوري إلى لبنان لوقف "الحرب الأهلية"، فدخل تحت تسمية خادعة هي "قوات الردع العربية" بأعداد كبيرة فاقت الأربعين ألفاً، مصحوبة بدباباته ومدافعه وترسانته الثقيلة والخفيفة، ترافقه حفنة من الجنود الخليجيين والأردنيين والليبيين بقصد التمويه ولم تلبث أن غادرت تاركةً جيش الإحتلال السوري يتحكّم بمصير لبنان ٣٠ عاماً.
١١٢ـ استطاع حافظ الأسد بدهائه المعروف إقناع زعماء الجبهة اللبنانية بالموافقة على دخول جيشه إلى المناطق المحرّرة كما ذكرنا، عندها طلبت أنا من الشيخ بشيرالذي كنا قبل أيام معدودة، قد انتخبناه قائداً للقوّات اللبنانية، أن يدعو إلى اجتماع طارىء مشترك بين القوّات والجبهة لبحث هذا الموضوع الخطير، بعد أن حاولت عبثاً إقناع الرئيس شمعون والشيخ بيار والرئيس الياس سركيس برفض هذا الدخول.
١١٣ـ تمّ عقد هذا الإجتماع في اليوم التالي في قيادة حزب حرَّاس الأرز التي كانت في الوقت عينه المقرّ المؤقت للقوَّات اللبنانية، وحضره جميع أعضاء الفريقين، فكان الإجتماع قصيراً وفاشلاً لأن الجميع كان موافقاً سلفاً على المبادرة السورية، ولأن ما كتب قد كتب.
١١٤ـ عندها اتفقنا في قيادة حزبنا على ضرورة إتخاذ موقف ما للتعبير عن رفضنا لهذه المبادرة ـ المؤامرة، فدعونا في اليوم التالي إلى مؤتمر صحافي عقدناه في مركز الحرَّاس في منطقة السبتية، وأعلنا خلاله الإعتصام في مكان ما في الجبل، فانتقلنا من الأشرفية إلى العاقورة، ثم إلى تنّورين ثم إلى عيون السّيمان وانتهينا في دير مار يوحنا في الخنشارة بسبب قساوة الطقس.
١١٥ـ حصل هذا في شتاء العام ١٩٧٦ ـ ١٩٧٧، وعندما حل العام ١٩٧٨ كان كيل أهالي المنطقة الشرقية قد طفح من تجاوزات الجيش السوري، فقررنا طرده من هذه المناطق بالإتفاق مع رفاقنا في أحزاب الجبهة اللبنانية. وبوقت قصير تمكنت قوّات هذه الأحزاب من تطويق مراكز السوريين، وبخاصة مقار قيادتهم في برج المرّ وبرج رزق وبناية حبيش وبناية كرم الزيتون ومحاصرتهم بشكل مُحكم، فدارت بيننا وبينهم معارك ضارية دامت حوالي الشهر أدّت إلى مقتل عدد مرتفع من السوريين المحاصرين الذين راحوا يطلبون من قيادتهم الإستسلام كما أفادتنا أجهزة التنصّت.
١١٦ـ عندها أمر حافظ الأسد قواته بالإنسحاب من المناطق الشرقية، فراحت تخلي مراكزها الواحد تلو الآخر مجرجرةً وراءَها أذيال الهزيمة، فكان هذا المشهد أروع ما شاهدناه في هذه الحرب، لا يضاهيه روعة إلّا المعسكرات الفلسطينية وهي تسقط تباعاً وتستسلم إلى المقاومة اللبنانية من تل الزعتر إلى جسر الباشا إلى النبعة إلى ضهر الجمل وضبية والكرنتينا.
١١٧ـ وهكذا تحرّرت مناطقنا للمرّة الثانية من إحتلال كان يحلم بضمّ الكيان اللبناني إلى الكيان السوري، غير ان الفرحة لم تدم طويلاً لأن حافظ الأسد قرّر الإنتقام على طريقته الوحشية المعهودة، فزرع الجبال المطلّة على بيروت الشرقية بعشرات المدافع والراجمات الصاروخية المتعددة الأفواه، وراح يقذف بها عشوائياً الأحياء السكنية ليلاً نهاراً وعلى مدى أسابيع متواصلة حتى أصبحت المناطق المحرّرة مناطق مدمّرة حيث سقط العديد من الضحايا، سيّما وان الصواريخ والقذائف طاردت الأهالي إلى ملاجئهم، وبخاصة قذائف المدفعية من عيار ٢٤٠ ملم المحظورة دولياً.
كل هذه الأحداث حصلت في صيف ١٩٧٨ وأطلق عليها إسم حرب المئة يوم.

لبَّـيك لبـنان 
اتيان صقر ـ أبو أرز