مثل الكثيرين من أترابه المسيحيين، غاب خليل غطّاس عن مقاعد الدراسة ليلتحق بالمقاومة اللبنانية في بدايات الحرب التي اندلعت سنة ١٩٧٥، فانتسب إلى حزب الكتائب ليدافع عن لبنان في مواجهة الفلسطينيين وجيش الإحتلال السوري. وكان اللاجئون الفلسطينيون وبدعم وتسليح عربي قد هدّدوا أسس الدولة بالإنهيار. وخرجوا من مخيّماتهم ليحتلّوا مناطق ونقاط عسكرية، وليتسببوا بقتل وتهجير الكثيرين. فصار المواطن اللبناني يحتاج إلى إذن للعبور على حاجز فلسطيني مسلّح. ثم دخل الجيش السوري بذريعة مساندة الدولة وإيقاف الحرب، فصار جيشَ احتلالٍ يعيث فسادا وقتلا وتدميراً. وفي ظل عجز القوى الأمنية عن فرض سلطتها لاعتبارات معروفة، كان لا بد للمسيحيين منفردين أن يواجهوا بصدورهم كل أسلحة الدمار المدعومة بأموال النفط.
لهذا خرج خليل ورفاقه لإيقاف كل تقدّم لجيش الإحتلال السوري نحو المنطقة الحرّة الوحيدة المتبقية من لبنان. وكانت تناهز في مساحتها حوالي خمس مساحة الوطن. فجعلها سكانها وغالبيتهم من المسيحيين واحة رجاء وأمل للإنطلاق منها مجددا وتحرير الوطن المحتل. لم تكن المنطقة الشرقية، كما كانت تسمّى خلال الحرب، تخلو من المسلمين. فكان فيها عائلات آمنت بوطن لا بد أن يكون حرا كريما. ولهذا، لم تكن لدى المسيحي أية نزعة عداء تجاه المسلم الشريك في الوطن، رغم تعاطف أغلبية المسلمين في لبنان مع السلاح الفلسطيني ومع الإحتلال السوري، خاصة في بداية الحرب. بل كنا كمسيحيين ننظر إلى المسلم كضحية للإحتلال تماما كما ننظر إلى أنفسنا.
ولأجل حماية المعقل الأخير الحر على أرض لبنان، وإبقائه واحة انطلاق لتحرير الوطن المحتل قاتل خليل. وفي معركة ملحمية في ربيع سنة ١٩٨١، وكان الثلج لا يزال يغطّي أعالي جبل صنّين، هاجمت قوات الإحتلال السوري مدعومة بطائرات الهليكوبتر مراكز المقاومة اللبنانية بهدف تدميرها والتقدم غرباً تمهيدا لاجتياح المناطق الحرة، فكان المقاومون بالمرصاد. وسدّد خليل ورفاقه النار باتّجاه العدو، وكان في موقع متقدّم ولم يشأ التراجع. ناداه رفاقه للعودة إلى المركز، لكنه استمرّ في التقدم حتى تلقّى وابلاً من الرصاص بصدره العاري واستلقى على الثلج فاتحا ذراعيه فيما عيناه تنظران نحو وجهته الجديدة، نحو السماء.
في اليوم التالي وبعد انحسار المعركة، بحث الرفاق مطوّلاً عن جثمان خليل ولم يجدوه. حتى ظنّ بعضهم بأنه ربما وقع في الأسر. لكن الواقع أن خليل كان هناك. حافظ على الموقع الذي قاتل لأجله ودفع ثمنه بدمه. عانق الثلج حتى صار جزءاً منه، فلم يعد يُرى هوَ بل أبقى المشهد أبيض ناصعاً كما أراد له أن يكون. وبعد أربع سنوات لتلك المعركة، عثرت دورية من الجيش اللبناني على رفاة خليل في جرود صنين وسلّمته لعائلته.
لم يكن استشهاد خليل هو استثناء في تلك الأيام. فكثير من العائلات قدّمت شهداء للوطن. لكن ما يدمي القلب أن أولئك الشبان الذين قاتلوا واستشهدوا، والذين كانوا طلاب مدارس وجامعات وبالكاد رأوا شيئا من متعة الحياة، وقفوا وحيدين أمام جبروت السلاح. يوم سكت العالم ولا يزال ساكتاً عما فعله الفلسطيني والسوري بأرضنا وشعبنا. كانت الجامعة العربية تصفق لياسر عرفات ولحافظ الأسد وهما يمعنان بشعبنا قتلا وتهجيرا. لم نكن نسمع لا إدانة عربية ولا دولية. لم يطالب أحد بإخلاء مقعد سوريا ولا بإسقاط النظام. كانوا كلهم ضدنا ولا يزالون. وحدك يا خليل، أنت ورفاقك الأطهار كنتم معنا.
عازار زكريا.
(الصورة الأخيرة للشهيد خليل غطّاس)