ليس كل من يتلقّى عقوبات أميركية هو بطل بالضرورة ،

لكن ليست العقوبات الأميركية اليوم ، ولم تكن يوما في تاريخها ، تنظم بناء على معايير الخير او الشر ،
أو على معايير إنسانية ..
امريكا لم تكن سياساتها الخارجية نحو الشرق الأوسط ، يوما ، إلا بناء على تقدير مصلحة أمنها القومي و مصلحة إسرائيل بعد إنشائها و مصلحة تدفّق الإنتاج النفطي وإن كان هذا العامل تقلّص في الأهمية في السنوات الماضية ..
و لا تجعل العقوبات الأميركية من متلقيها نزيها أو حكيما ، كما لا تصنع منه فاسدا أو إرهابيا ..
و يمكن للعقوبات أن تكون محاسبة أو عقوبةً ، ليس على ما فعلَ سياسي ما ، بل أيضاً على ما لم يفعله ، أو ما لم يلتزم بفعله ...
مثلا هل كانت عقوبة النظام السعودي ضد نبيه بري عندما ألغت زيارة رسمية له قبل سنوات ، عقوبة له عما فعله أم على ما لم يفعله من وجهة نظر النظام السعودي و علاقته بنبيه بري ؟؟
و هل العقوبات في حدّ ذاتها تدخل في نطاق أخلاقيات السياسة الخارجيّة الأميركية ، أم أن علينا ربط ذلك بما تبتغيه إسرائيل ؟
نستطيع أن نوجز صنع السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط بالتالي :
كان صنع السياسة الخارجية نحو الشرق الأوسط ( حتى التسعينيات ) هو نتاج تجاذب و صراع بين اللوبي الإسرائيلي من جهة و بين فريق المستعربين المتنفذين في أجهزة الحكم و الاستخبارات من جهة ثانية ..
كان النصر غالباً حليف اللوبي الإسرائيلي ، لكن ليس دائماً : في عام 1981 قدّمت إدارة ريغان طلب بيع صفقة «أواكس» كبرى إلى السعوديّة ، و حدثت المواجهة الكبرى بين إدارة أميركية و بين اللوبي الإسرائيلي و كانت الخسارة ، كما هو معروف ، للوبي الإسرائيلي .
كانت تلك أكبر ضربة للوبي في تاريخه ، ولو لم يكن طرفها رونالد ريغان لما أمكن لرئيس أن يفوز فيها . لكن ريغان في سعيه لنيل موافقة الكونغرس كان صريحاً ( كما كانت شهادة كيسنجر يومها ) بأن الصفقة تدخل في مصلحة أمن إسرائيل ( بالإضافة إلى تأكيده على فرض شروط صارمة على تشغيل الطائرات ، ومنها الوجود المستمر لطاقم أميركي أثناء تشغيلها ) ..
أما في مرحلة بيل كلينتون ، فقد تمّ ضرب قطاع المستعربين بالكامل ، وأصبحوا افراد في هذا الجهاز أو تلك الإدارة بعدما تولّى اللوبي الإسرائيلي أمر التعيينات الكبرى في أقسام الشرق الأوسط ..
منذ ذلك الوقت ، أصبع صنع السياسة الخارجية نحو الشرق الأوسط في يد اللوبي الإسرائيلي بالكامل ، وأصبح المتخصّصون في شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجيّة يحتاجون إلى رضى اللوبي من أجل الترقي وتولّي المناصب الأرفع ..
و ما تفعله وزارة الخزانة الأميركية بشأن العقوبات والمراقبة المالية في الشرق الأوسط ، ليس إلا تنفيذا حرفيا لما يتم التوافق عليه بين وزارة الخارجيّة الإسرائيلية و اللوبي الإسرائيلي في واشنطن ...
أي شرح للعقوبات من منظور آخر يقصر في فهم منطلقات السياسة الخارجية .. ف ديفيد هيل ، مثلا ، ينتمي إلى السلك الخارجي ، بينما أتى ديفيد شينكر إلى منصبه من « مؤسّسة واشنطن » ( الذراع الفكريّة للوبي الإسرائيلي ) ، و عليه فإن شينكر ( خلافا للسلم الوظيفي لوزارة الخارجية ) يفوق هيل تأثيرا ونفوذا ، لقربه اكثر من مركز القرار الحقيقي ..
العقوبات الأميركيّة تطوّرت عبر السنوات ، من العقوبات والحصار على الدول مثل دولة العراق إلى العقوبات الحالية ضد الأفراد و الشركات ، وهي خانقة ..
عصر التبادل المالي الإلكتروني و مراقبة الحكومة الأميركية للتحويلات بين الدول ، حيث لم يعُد بالمستطاع تحويل مئة دولار من دون ملء استمارة ، والإجابة عن أسئلة تفصيلية ،
كل ذلك نتاج الإجراءات التي اتخذت بعد عملية ١١ أيلول ..
يومها خرج بوش الإبن و قال :
" إما أن تكونوا معنا و اما أن تكونوا ضدنا .."
بالطبع كل العالم هو بالفطرة ضد الإرهاب ، لكن كلام بوش الإبن كان له إجراءات عملية يجب على الدول اتباعها و ليس أن تأخذ مجرد مواقف من أحداث نيويورك ..
و من الإجراءات التي ينبغي أن توقع عليها الدول و تقبل بشروطها ، و خاصة دول الشرق الأوسط ، هو في الحقيقة انكشاف أمني و اقتصادي أمام الولايات المتحدة الأمريكية ،
فوقعت الدول على بروتوكولات تجيز للامريكيين الدخول إلى كامل الملفات الأمنية و كامل الحسابات المصرفية في تلك الدول بحجة مراقبة الانشطة الإرهابية ..
كيف لا ، و دفع الامريكيون زهاء ٣٠٠٠ قتيل في أحداث ١١ أيلول ؟ من يجروء على عدم التعاطف أو التعاون ؟
فانكشفت الملفات في الدول تباعا ، اكانت مالية أو أمنية و حتى اجتماعية .. أصبح الامريكيون قادرين من متابعة مصلحة تسجيل السيارات مثلا أو معرفة القيود الاجتماعية في وزارات الداخلية أو الدخول إلى أي بيانات مصرفية ..
وكل هذا ليس بغرض محاربة الإرهاب ، بل لتجفيف أي دعم أو تمويل ، و لو خيري ، لأي جهة تناصب العداء لإسرائيل ..
و المثل الصارخ لذلك أمامنا هو " داعش " التي باعترافات أمريكية هي صناعة محلية و دولية ذو أهداف سياسية محددة تخدم الأجندة السياسية للغرب عامة و لإسرائيل خاصة : و هل سمع أحد ما عملية ارهابية نفذتها و تبنتها داعش ضد مصالح إسرائيل في الشرق أو الغرب ؟
و عليه ، فإن العقوبات على المعاون السياسي لنبيه بري و على الوزير فنيانوس لا تختلف عن العقوبات على جبران باسيل في الأهداف و إن كانت تختلف في المضمون :
قد تعاقب على عمل لم تنفذه ، كما قد تعاقب على عمل نفذته ،
و طبيعة العمل في الحالتين يقوم على مبدأ واحد :
مصلحة إسرائيل