أظهرت الوقائع التعليقات والتسريبات التي رافقت رحيل النائب المتني والمهندس والمقاول والأرثوذوكسي والبتغريني والتسعيني، ميشال المر، شيئاً أو أشياء من صورة الذل اللبناني العالي، خصوصاً لناحية العلاقة مع الوصي السوري ودور بعض السياسيين اللبنانيين القائم على الوشاية والاستزلام والتزلف والانتفاع لهذا الضابط أو ذاك. والحال أن موت النائب، ترافق مع تعداد "محاسن موتاكم" أو"الإنجازات"، أو التي يعتبرها أنصار الراحل إنجازات "رجل دولة"، وهي في رأي خصومه "موبقات" كما كتب الباحث أحمد بيضون (والموبقات في اللغة الكبائر من المعاصي والذُّنوب المُهْلكات، اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ [حديث]). فالرجل المتني و"الوسيط" والوسطي و"صانع الرؤساء" والبراغماتي في زمن الاحتلالات والوصايات والجامع بين سياسة العصا والجزرة، أو البلطجية والتنفيع، أمضى ستين عاماً في نيابته ومواقعه المتعددة "ولو لم يكن أرثوذوكسياً لكان مكانه في بعبدا" بحسب أحد إعلامييه الفطاحل. وكان "مهندساً بارعاً في تشييد طبقاته السياسية وتراكم موقعه ومكانته في السلطة" بحسب زميلنا عفيف دياب في "فايسبوك"، على نسق ما شيّد برجه الكالح. وعمل على مبدأ "ما من حليف دائم في السياسة"، فهو حالف الحزب السوري القومي الاجتماعي في زمن كان المسيحيون يعتبرونه مسؤولاً عن اغتيال بشير الجميل، وكان معادياً للعونيين وسرعان ما حالفهم وضرب بسيفهم قبل أن يتصارع الميشالان على لقب "دولة الرئيس"، وهو اتهم "القوات اللبنانية" بمحاولة اغتياله وعاد وحالفها، وبسبب جموحه في حب الكرسي تصارع مع أخيه غابرييل، وبقيت كراهيته الأبرز للنائب الراحل نسيب لحود.


ومن المآثر "المرّة"، مجموعة من الأبراج العمرانية كانت مثالاً في التشوه العمراني والبيئي، أبرزها برج المر في وسط بيروت، وكان مصممًا ليمثل مركزًا تجاريًّا، وشيّد في بداية السبعينيات في إطار المنافسة على من يمتلك أعلى برج في بيروت وكان ينافس برج "رزق" في الأشرفية، وقدر له أن يشكل معقلًا للقناصين خلال الحرب، وبقي شاحبًا باهتًا في زمن السِّلم، يحمل ذكريات قاسية وأليمة، تشبه السياسة اللبنانية وطبقاته.


والمآثر الكبرى للمر أيضاً، تجلّت في نفوذه الأسطوري في بلديات ومخاتير (وهي حتى الآن تحت سيطرته)، والأملاك البحرية والسياحية (الزعرور)، ومؤسسات الدولة (النافعة وغيرها). بنى امبراطورية نفعية، وكل شيء في مناطقه كان ممره مكاتبه في عمارة شلهوب. في السياسة، كان شريكاً بارعاً في الانتفاع والمحاصصة والفساد، وكانت مهندساً بارعاً في الإشراف على انتخابات غب الطلب، وفي تجميع عدد كبير من الصحافيين حوله وفي وزارته، وهو شارك في تجنيس مجموعات بشرية تنتمي إلى اللامكان، كانت تظهر في مواسم الانتخابات بحافلات آتية لانتخابه فقط، وسرعان ما تختفي. وتحولت وزارة الداخلية في زمانه إلى إمارة خاصة، تضج بالزائرين من السياسيين والنواب الباحثين عن ومنافع ورضى دولته...


وأبو الياس، كما يحلو للبعض أن يناديه تحبباً و"خوشبوشية"، أول إنجازاته في زمن الوصاية، إطاحة ابن بلدته الشيوعي جورج حاوي. ومَن يقرأ مذكرات الشيوعي الآخر، جورج البطل، يستنتج أن النظام السوري المخابراتي فضّل رجل الأعمال والمقاول، على رجل النضال والسياسي، أو الخدمات المقاولاتية على الخدمات النضالية (الشيوعية). واستفاد المرّ الراحل من تهميش زعماء الموارنة ونفيهم (أمين الجميل، ميشال عون) أو سجنهم (سمير جعجع)، فكانت له جمهورية بتغرين، وصار "مرجعاً" مسيحياً، ومثله رموز الوصاية سليمان فرنجية وإيلي الفرزلي وإيلي حبيقة. وصار "بيتاً" سياسياً، لكن جمهوره المسيحي كان قابلاً للتحول والتبدل، وبالتالي كان التبدل يصدّع ركائز البيت، ومع ذلك عرف المر كيف يرسم طريق الوصول بغض النظر عن السبل التي تؤدي الى المركز، ولم يغب حضوره حتى في أحرج لحظات خروجه من جنة السلطة والنفوذ، بسبب سياسته الزبائنية المتراكمة وباقات ورده...

والنقطة الأبرز في المسار المر، بحسب الرواية المتداولة والمنشورة والمفسبكة، أن أبا الياس، ذات مرة، كان يسعى لإطاحة جميل السيد بسبب تعاظم نفوذه وسلطانه، يوم كان مديراً للأمن العام، وذهب المر للغاية المرجوة طارقاً باب البيت العالي الدمشقي الأسدي، مدعوماً من حليفه السابق الجنرال إميل لحود. ومع إطلالة الصباح، كان دولته يقرأ هجوماً عنيفاً عليه في جريدة "السفير" (المحتجبة الآن)، ففهم الرسالة وانتهى المآل بأن أُزيح أبو الياس من وزارة الداخلية وعُيّن مكانه ابنه الياس، البارع والمحترف في صناعة وهم عبدة الشياطين ومطاردته. بمعنى آخر، نفوذ المدير العام الأمني، لدى السوريين، هزم النائب المتني في إطار "صراع الجبابرة" وأهل الوشاية. فالوشاية، لدى سياسة الوصاية، كانت لها مراتب و"مقامات"، وهناك مَن يقدمون الوشاية في عنجر أو لدى ضابط في الصف الأول ضمن تركيبة النظام السوري، وهناك مَن لهم علاقة مباشرة بالأسد نفسه... بالطبع حين يعود بعض "جبابرة" السياسة اللبنانية من أزلام الوصاية، إلى ذاكرتهم، فهم يضعون ذلهم السوري ووشايتهم في خانة الإنجازات، ويتجلى هذا في مذكرات فلان وكتابات علتان وتسريبات ذلك النائب، وجرأة ذاك المدير.