يقول دبلوماسي فرنسي يلعب حالياً دوراً في الملف اللبناني ، أن كل شيء تغير في واشنطن رغم النتائج السلبية التي ترتبت على الربيع العربي ..

فالحرب على سورية تحت راية دعم مشروع للتغيير السياسي السلمي ، انتهت بحصيلة مأساوية بالنسبة للغرب ، فقد صارت روسيا وإيران حاضرتان في سورية أكثر من الماضي بأضعاف مضاعفة ، و الثورة السلمية صارت جماعات إرهابية لا يمكن التستر عليها ولا على طبيعتها ، والدولة السورية تخطّت المخاطر ، وصارت حقيقة ثابتة لا يمكن إنكارها ولا تجاهلها ، و الحلف الذي حشدته واشنطن تفكك ودخلت أطرافه في صراعات جانبية طغت على المشتركات ، واحتلت واجهة الأحداث ، سواء الصراع التركي الخليجي و في قلبه الصراع القطري السعودي الإماراتي ، أو الصراع التركي الأوروبي في ليبيا ، وصولاً للتجاذبات القاسية التي تفرضها السياسات التركية شرق المتوسط ..
كل ذلك و فرنسا طرف رئيسي فيها ..
والحروب التي بدت مضمونة النتائج تتعثر ، من حرب سورية إلى حرب اليمن إلى حرب ليبيا ، بلا استراتيجية خروج واضحة ، و رغم ذلك تنسحب واشنطن من الاتفاق النووي ، ومن مشروع سلام أو تسوية يحاكي الشارع العربي ، بحد أدنى عنوانه التمايز التقليدي عن إسرائيل بالموقف من الاستيطان والقدس ومشروع الدولتين ، و الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 67 ،
و تأتي المقاربة الأميركيّة في لبنان من موقع مشابه ، فلا انتباه لمخاطر الانزلاق إلى قلب صراع تحشد فيه الطائفة الشيعية في مكان ، والطائفة السنية في مكان ، و تقسيم المسيحيين بين الطائفتين وإضعاف دورهم ومكانتهم ، وصولاً للانسداد السياسي الكامل ، و لا حذر من إلغاء سياسات التحييد التقليدية ، واللجوء إلى القصف العشوائي عبر العقوبات بدلاً من الاستهداف الضيق والمدروس خير مثال ..
و يقول الدبلوماسي الفرنسي السابق إن سقوط فرص التسوية في المنطقة بعد صفقة القرن والتماهي الأميركي الإسرائيلي ، رفع منسوب التوتر ،
و لا يُغطي خسائره الحديث عن أرباح التطبيع الخليجي الإسرائيلي، الذي سينقل التوتر نفسه الى الخليج ، و بعدما كان دور الخليج تخفيف التوتر في فلسطين والمشرق بمواقف وسطية ، سيتحوّل هو الى ساحة توتر ، بينما توحَّد الفلسطينيون ويستعدون للعودة الى سياسة الثمانينيات والانتفاضة والعمليات المسلحة ..
و في لبنان بدلاً من فتح الباب للمبادرة الفرنسية القائمة على مراوح عدة من التحييد ، كما كان واضحاً في مندرجات المبادرة ، تحييد حزب الله عن مواجهة تسقط فرص النجاح ، و تحييد حليفيه الشيعي والمسيحي ، والخروج من أي شبهة انزلاق لمواجهات وتوترات طائفيّة ، والتركيز على هدف المبادرة و هو منع المزيد من التدهور المالي والسياسي في لبنان ، سوف يترتب عليه في حال حدوثه انزلاق المنطقة نحو مواجهة اقتصادية مع منافسين استراتيجيين للغرب ، يفرضون ملء الفراغ الذي تركه الغرب في بلد يواجه خطر السقوط الكامل ، ستصبح معه أي خطوات إنقاذية مقبولة ومطلوبة ، و ربما انزلاق المنطقة الى توتر اقليمي بين اسرائيل و حزب الله ، سيفرض عند اندلاعه مقاربة عاجلة لمنع التصعيد بتقديم تنازلات لحزب الله تفرض شرعية جديدة لسلاحه ، وحضوراً أقوى له في معادلات السلطة ،
فأصغى الأميركيون الى المبادرة التي عرضت لهم مفصلة الأهداف والخطوات ، لكنهم بدلاً من دعمها الصادق لعبوا معها بالتفاصيل ، لإفراغها من مضمونها ، فجاءت العقوبات تسدد ضربة خاطئة أصابت المبادرة نفسها ورفعت منسوب التوتر ، و جاء التشجيع لسياسات محلية توحي بتصويب المبادرة نحو إنتاج صيغة غالب ومغلوب بين الطائفتين السنية والشيعية، حرصت فرنسا على تفاديها منذ البداية بالتنسيق مع الأميركيين ، ودخل لبنان في مخاطر صراع طائفي خطير سيجعل مهمة باريس أشدّ صعوبة وتعقيداً ، وفرص الفوز بالنجاح تتراجع ..
و يختم الدبلوماسي الفرنسي بالقول ، إن باريس لم تقرّر سحب مبادرتها ، وهي حكماً لن تتحدث عن مسؤوليات محددة تسببت بإفشالها ، وتسعى لتهدئة الثنائي وطمأنته بعدم وجود أي خداع في المبادرة ،
لكن النقاش يدور حول مدى وجود فرص لنسخة ثانية من المبادرة دون دعم أميركي ، في ظل التجربة التي تكاد تنتهي الى الفشل ،
وفرنسا لا تملك ترف الخيار للمواصلة لأنها تدرك كما عند إطلاق المبادرة أن الفراغ سيعني الفوضى أمنياً ، وساحل المتوسط فيه ما يكفي من المتاعب الأوروبية ، مع حكم تركي أرعن ومغامر وجاهز لاستغلال الفرص ، والخطر المالي في لبنان داهم وسيفرض خيارات بديلة يصعب التراجع عنها ، رغم رغبة اللبنانيين بكل طوائفهم وقواهم السياسية بمنح الفرصة الفرنسية إمكانية النجاح ، وقناعتهم بأن الغرب والعرب هما الخيار الاقتصادي المفضل للبنان ، لكن بشرط مد حبل النجاة لهم كما فعلت المبادرة ..
ويعطي الدبلوماسي الفرنسي نموذجاً عن كيفية التصرف الأميركي مع الفشل ، بكلام وزير الخارجية الأميركية بعد الفشل بتجديد الحظر على السلاح على إيران ، وسقوط أكثر من محاولة أميركية في مجلس الأمن ، فيخرج وزير الخارجية مايك بومبيو و يقول إن الحظر الأممي تجدد تلقائياً و هو يعلم أن هذا لم يحدث بل حدث عكسه ، و يضيف أن حكومته ستتصرف على هذا الأساس بدلاً من المنظمات الأممية إذا أخفقت بذلك ، و رغم هذا الإنكار وهذه المكابرة ، لا تجد فرنسا بديلاً عن العودة للتحدث مع الأميركيين على أمل الحصول على مزيد من فرص التحرك المشترك