مخاطر الإنترنت على الأوطان


 موت الجغرافيا:

حول الوطن و الإنتماء
__
الإنتماء يولد محكوماً بالجغرافيا:
الرحم هو الوطن الأول، و الوجود هو الغربة الأولى.
ينتمي الطفل إلى عائلته، طالما قدرته على التنقل محصورة داخل المنزل العائلي.
ثمّ ينتمي الولد إلى الحي، إلى المدرسة، إلى النادي الرياضي، إلى القرية... تتسع الدائرة التي لا يسمّيها " وطناً " و حسب، بل حقاً يشعر بالإنتماء إليها، يتفاعل معها عاطفياً قبل أن يتفاعل عقلياً...
دليلٌ على صدق هذا الإنتماء،
الذي، و بطبيعة العقل في ربط المشاعر (تفاعلات كيميائيّة) بالذكريات (تفاعلات كهربائيّة), يتجذّر هذا الشعور مرتبطاً بالذكريات المتوازية في اللاوعي، و يظهر إلى العلن في سلوك غير واع (ردّة فعل عفويّة):
انتقدوا مدرسة أو قرية أو نادي فلان، و شاهدوا كيف يأخذ الشتيمة شخصياً ، يحتدّ للدفاع عن وطنه الصغير، و هذا أمر طبيعي.
في القدم، كلّ الأوطان كانت على قياس المسافة التي يستطيع الإنسان أن يعيش فيها و يتفاعل مع البيئة ضمن تخومها...
و حتّى اليوم، أقدم الأوطان أصغرها !
...
ثمّ أتت سكّة الحديد ،
لتفعل بمفهوم الأوطان ما فعله الحصان على البرّ و السفينة في البحر في العالم القديم:
تخطّي جميع التخوم و الحدود الجغرافيّة للأوطان...
صناعة " SUPER-وطن " تختلف عن توسّع " إمبراطوريّة ".
الإمبريالي يحكم أوطان الغير و يستغلها في خدمة وطنه الأم. إن أصبحت كلفة التوسّع أغلى من فوائدها (بسبب ثورة مثلاً، أو جفاف الموارد الطبيعيّة) ، يعود الإمبريالي إلى وطنه أو يبحث عن أوطان أخرى ليستغلها...
أمّا "المستوطن"، فيبحث عن جغرافيا جديدة كوطن بديل، ليبقى و ينتمي ويصنع هويّة جديدة.
الأوطان الجديدة قاريّة، حدودها حدود القطار، أحدث الأوطان أكبرها.
...
الأوطان الجديدة لم تلغ الإنتماءات القديمة، التي تبقى حاضرة في ديناميكيّة إدارة التنوّع و التعدديّة و توزيع السلطة، و لكن أعمق من ذلك، تبقى طاغية في وجدان الأفراد:
الأوروبي اليوم ، و بالرغم من الجهود المستثمرة في صهر الهويّة القاريّة، يخوض المباريات الرياضيّة كما خاضت قبائل أجداده المعارك الحربيّة. هناك من يشعر بالإنتماء للمانشستر يونايتد أو لنادي برشلونة أكثر من انتمائه لبريطانيا أو أوروبا، و هذا واقع ملموس نراه في كل موسم رياضي.
...
ثمّ أتت الإنترنت،
لا لتحوّل الأرض إلى قرية عالميّة واحدة – كما يحلو للعولميّيين (اليمين) و الأمميين (اليسار) – بل لتحرّر الإنتماء من قيود الجغرافيا ، و تهدم التخوم التي تتوسّع مع وسائل النقل... الإتصالات ليست إمتداداً للمواصلات، بل عدوّها، و بديل فعّال عنها !
اليوم، نتجمّع في حلقات إجتماعيّة على وسائل التواصل، فنفعل و نتفاعل مع أصدقاء في أقاصي الأرض أكثر بكثير مما نعيش مع جيراننا و في أحيائنا و أوطاننا. نتكتّل حسب الإهتمامات المشتركة، و نشبك عقوداً إجتماعيّة (دستوريّة) في مجموعات غير جغرافيّة، بل فكريّة – أي قائمة على الأفكار المشتركة.
هذا ليس تطوّراَ طبيعياَ في امتداد جغرافية الإنتماء و توسّع الأوطان ، وإلا لكنا صرنا " قرية واحدة -
بل إنفجار في مفهوم " الوطن ".
العالم 200 دولة، العالم الإفتراضي مليون دولة،
و كل دولة " فكرة "
و هنا، حيث أصبحنا نعيش، الإنتماء الأقوى للوطن " الفكرة ".
...
الجغرافيا ماتت
تحيا الأوطان.