Image result for bachir gemayel president
كامل الأسعد: أُعلن انتخاب بشير الجميل رئيسًا للجمهورية

23 آب 1982. بشير الجميل يجلس في مكتبه في المجلس الحربي ويتابع تفاصيل ذلك اليوم الإستثنائي في حياته وفي تاريخ الجمهورية اللبنانية. الحادية عشرة ظهرا، في المدرسة الحربية في الفياضية، افتتح الرئيس كامل الأسعد الجلسة الثانية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعدما اكتمل النصاب بحضور 62 نائبا. الكل صوّتوا. النائبان طارق حبشي وميشال معلولي يفرزان الأوراق. بشير الجميل... بشير الجميل... الدقائق تمر ببطء. فجأة يصدح صوت رئيس المجلس في القاعة: بشير الجميل رئيسًا للجمهورية بـ57 صوتا وخمسة أوراق بيضاء. قام بشير عن كرسيه .أمسك بالهاتف واتصل بزاهي البستاني. «زاهي انتصرت الجمهورية». لكن زاهي لم يجب. كان يغرق في بكاء الفرح.
ذلك اليوم لم يكن عاديا. يومها كانت الخطوط الهاتفية مقطوعة بين «الشرقية»و»الغربية» تماما كما المعابر. لكن النواب الذين قرروا الوصول إلى البرلمان أمضوا ليلتهم في «بيروت الشرقية». الحادية عشرة افتتحت الجلسة. 62 نائبا دخلوا القاعة تباعا، كل على وقع الهتافات والتحيات. وحدها شوارع البيروتين التي خلت من الناس كانت شاهدة على الحدث. فالكل كان مصرا على عدم دخول الجمهورية في الفراغ. من هنا شكل انتخاب بشير الجميل انتصارا لمنطق الدولة على الفوضى ومملكة العصابات والقبضايات، وجاء بمثابة فعل تأسيسي لحلم الباقين في هذا الوطن.
وقائع الجلسة دونت تباعا كما التحليل والقراءات التي جاءت على قياس اشخاص وحسابات شخصية. وحدها حقيقة تلك اللحظات وما رافقها من مواقف ومشاعر رحلت مع بشير الذي كان يجلس في مكتبه في المجلس الحربي وقد أسند رأسه إلى يده ليتابع وقائع هذا اليوم التاريخي.
الثانية عشرة والربع دخل النائب موريس فاضل، تبعه النائب ميشال المر ليعلن وصول أربعة نواب سالم عبدالنور (روم كاثوليك)، وفؤاد طحيني (ماروني)، وأميل روحانا (كتلة ريمون إدة) وفؤاد لحود (ماروني). فساد الهرج والمرج القاعة. إكتمل النصاب لا بل تم تجاوزه. 44 نائبا مسيحيا و12 نائبا شيعيا و4 نواب سنة ودرزيان . المجموع 62 نائبا. ويروى أن أربعة نواب تعهدوا بأن يكونوا آخر من يدلون بأصواتهم لأسباب أمنية تتعلق بسلامتهم وسلامة عائلاتهم، وعهد بالأربعة إلى النائب جان غانم وكلف بتأمين إقتراعهم. ولازم ميشال سماحة بيت أحد النواب السنّة ضمانة لصوته في حال احتاجوا إليه، كما تعهد ميشال المر بدفع نفقات الانتقال للنواب الموجودين خارج لبنان. وأرسل مدير المخابرات في الجيش اللبناني العقيد جوني عبدو مروحية عسكرية إلى قبرص لنقل نائب زحلة جوزف سكاف الذي جاء من باريس وكان يشكو المرض
.

وفي الكرنتينا كان زاهي البستاني يدير العملية عبر جهاز الراديو، وكان يعرف أن النصاب قد تأمن. ماذا دار في هذه الجلسة وماذا يتذكر رجالات المجلس آنذاك ممّا دار في كواليسها؟
من منزله في جزين حيث يلازمه في فترة الصيف يسترجع النائب السابق إدمون رزق وقائع جلسة انتخاب بشير الجميل في 23 آب 1982 بعد تأجيل الجلسة الأولى بسبب عدم تأمين النصاب. ويقول:» كانت هناك مسافة معنوية كبيرة بين بشير الجميل وكرسي الرئاسة. لكن عاملين إثنين اختصرا هذه المسافة: تبني الرئيس الراحل الياس سركيس لبشير مما أعطاه الصفة العابرة للحزب. وتبني رئيس مجلس النواب الراحل كامل الأسعد له مما أعطاه الصفة العابرة للطائفة. وتوج العاملان بمباركة والده الشيخ بيار الجميل والرئيس الراحل كميل شمعون الذي اعطاه الزخم المسيحي بحيث تجاوز بشير صفة الحزبي وصار يعبّر عن جماعة، خصوصا أنه لم يكن هناك إجماع على وصول بشير إلى الرئاسة حتى داخل حزب الكتائب «.
كل هذه الإعتبارات يضعها رزق في كفة ودور كامل الأسعد في كفة أخرى، ويضيف: «كان الرئيس كامل الأسعد بطل جلسة انتخاب بشير الجميل. فهو رفض الإنصياع لطلب الرئيس حافظ الأسد بعدم ترؤس الجلسة. وقال الأسعد للأسد: «أنا بدي أعمل جلسة لأنو ما بقبل فرِّغ رئاسة الجمهورية. وما بدي يمرق الإستحقاق الجمهوري ويكون في فراغ وتفكك بالدولة». ويؤكد رزق أنه «لولا الرئيس كامل الأسعد لما وصل بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية ولا حتى شقيقه أمين لاحقا». ونفى أن يكون أي واحد من النواب جاء بقوة التهديد والترغيب «فالنائب السابق ألبير مخيبر لم يحضر ولم يجبره أحد على المجيء، وكذلك الحال بالنسبة إلى النائب السابق ألبير منصور». ويروي أحدهم أن اجتماعا حصل بين الرئيس الراحل بشير الجميل والنائب ألبير منصور في دارة الرئيس كامل الأسعد فقال له الجميل خليك هون إذا مفكر إنو نتعاون. فأجابه منصور بأنه ينوي الذهاب إلى بيروت الغربية فتركت له حرية الخيار.
إنضمام رجالات من غير الطائفة المسيحية كالأمير مجيد أرسلان أعطى الحدث صفة وطنية، إضافة إلى التحرك السعودي الذي منحه غطاء الشرعية العربية. لكن لا هذه الصفة ولا ذاك الغطاء يلغيان الكاريسما التي كان يتمتع بها الرئيس الراحل بشير الجميل، على ما يوضح رزق. ويتابع: «كان معروفا بصراحته وجرأته وديناميكيته، مما جعله محط أنظار الشباب الذي كان يحلم بإعادة تركيب الدولة الواحدة».
نصل إلى يوم جلسة الإنتخاب.»يومها تأمن النصاب على الزيح. كثيرون من النواب ترددوا وخافوا لكن في النهاية وصل 62 نائبا إلى المجلس. وقد دفع البعض ثمن حضوره بعدما تعرض للتهديد ومنهم من تم قصف منازلهم أو إحراقها.
لكن على أي أساس صوت 58 نائبا لبشير الجميل وخاطروا بحياتهم لوصوله إلى سدة رئاسة الجمهورية؟ يجيب رزق: «الكل كان يراهن على أفق جديد للخروج من الوضع المستحيل الذي كان يسيطر على البلد، خصوصا أن الرهانات على الخارج سقطت وكان هناك مخزون من رجالات الدولة الذين سعوا إلى منع حصول فراغ في سدة الرئاسة».
وكأن التاريخ يعيد نفسه؟ «صحيح. مع فارق أن رجالات الدولة رحلوا ومعظمهم اليوم لا يفكرون إلا بمصالحهم الشخصية. في الماضي كنا نقول إذا ما في بلد ما حدا بيطلعلوا شي».
لحظة خروجه من قاعة جلسة الانتخاب قال إدمون رزق: «اليوم نشهد على ولادة جمهورية لبنانية بكل ما في الكلمة من معنى. حتى النواب كان لديهم الإنطباع نفسه بعدما تحولت الدولة إلى وهم». وللتاريخ يشهد قائلا: «التحول الذي حصل بين فترة انتخاب بشيرالجميل واغتياله مر بسرعة. قبل انتخابه كان يصر بشير على نعي ميثاق ال43 ويقول: «بدنا نحط حجر على قبرو. لكنه ارتد إلى الميثاق». ويتذكر كلامه عندما زاره في بيته الموقت في فيطرون «كنا نصعد في السيارة ونذهب في جولة لمدة ثلاث ساعات ونتحدث عن الدولة التي يريدها لشباب المستقبل. يومها لمست تحولا هائلا في شخص بشير بحيث انتقل من رجل الثورة إلى رجل الدولة وفي إحدى المرات قال لي: اكتشفت أنك وأبي على حق. فدولة ال 10452 يجب أن تقوم على أساس الصيغة التعددية التي كفر بها كثر. وكان يردد «المسلم القريب أقرب لنا من المسيحي البعيد». ويختم رزق: «لو عاش بشير كان سيشتغل على الجمهورية لأنه كان رجل موقف وقرار وليس رجل تنظير .فهكذا يجب أن يكون رجالات الدولة في المفترقات المفصلية».
ميشال معلولي: كان يعرف أنه مهدّد
بحرقة على أيام كان لرجالاتها مواقف وطنية، يتحسّر نائب رئيس مجلس النواب السابق ميشال معلولي ويعود إلى يوم 23 آب 1982 بكثير من اليقظة:» كأنه اليوم. كان عنوان المعركة تأمين النصاب خصوصا أن التهديدات كانت تلاحق النواب وكثر تعرضت منازلهم للتفجير والقصف، وأنا واحد منهم. مع ذلك حضر 62 نائبا لأن أحدا ما كان ليرضى بحصول فراغ في سدة رئاسة الجمهورية أو تفريغ الدولة من مفهومها المؤسساتي كما هو حاصل اليوم. من هنا كان عنوان المعركة الثانية بين الدولة واللا دولة».
أثناء عملية فرز الأصوات كان ميشال معلولي يقرأ الأوراق بعد سحبها من قبل النائب طارق حبشي بحسب الأصول. «الكل صوت لبشير الجميل باستثناء 5 نواب. كانت أوراقهم بيضاء. ربما كانوا خائفين وهذا طبيعي. وبعد تسليم رئيس المجلس كامل الأسعد الأوراق وإبلاغه بنتائج الفرز، أعلن إسم بشير الجميل رئيسا للجمهورية».
ويستعيد معلولي الأحداث التي تلت عملية الإنتخاب وصدور النتيجة: «أذكر أنني كنت أجلس إلى جانب الرئيس بشير الجميل عندما اقترب والده الراحل الشيخ بيار الجميل وقال: انتخبت رئيسًا مغامرًا للجمهورية. كان خائفا على بشير وكان قلبو دليلو أنهم سينالون منه بطريقة وحشية إستنادا إلى الوقائع التي تؤشر إلى رفض كل من السوري والفلسطيني والإسرائيلي وصوله إلى سدة رئاسة الجمهورية. حتى الرئيس الراحل الياس سركيس تمنى عليه أن يكون حذرا في تنقلاته، وطلب منه أن يتوقف عن زيارة النواب كل في مكان إقامته لشكره على حضور الجلسة، وأن يتقبل التهاني في القصر الجمهوري. أما بشير فأصر على عدم تغيير أي من عاداته علما أنه كان يدرك أنه مستهدف. كان يتكل على إيمانه بربه. ولو بقي حيًا لكان لبنان اليوم مختلفًا عما هو عليه لأنه كان مصممًا على إقامة دولة.
مع غروب شمس 23 آب 1982 كانت المرة الأولى التي تشرق فيها شمس الأمل بدولة لبنان. في 14 أيلول اندثرت آخر معالم الدولة وبدأ تاريخ الجزر الأمنية في لبنان ال10452 كلم2